لماذا نحفظ القرآن؟
عندما طالب أحدهم بحذف سورة الإخلاص من المقررات الدراسية للتعليم الابتدائي، كانت حجته أن الطفل في هذه المرحلة لا يفهم معناها، أو لا يستطيع ذلك، وكأن الطفل يفهم غيرها من المعلومات في هذه المرحلة!
إن مَن يتكلم عن الفهم والاستيعاب لدى الطفل في المرحلة الإبتدائية –سواء في القرآن أو في غيره- يعد كلامه خارج موضوع تعليم الطفل؛ لأن الطفل في هذه المرحلة من التحصيل الدراسي، يتعلم الأصوات، والأشكال، والألوان، والحركات.. فقط لا غير وما عدا ذلك فله زمنه اللاحق فيما بعد الابتدائي، وتعلم هذه الأمور كلها عبارة عن محاكاة وتقليد، ولا علاقة لها بالفهم والقدرة عليه، ومن ثَم فهي تربية ذهنية، وتقوية ذاكرة، وتنمية ذكاء، وتهيئة وعاء؛ لأن الطفل لا يتمكن التجريد والقدرة عليه إلا بعد السن الثانية عشر كما يرى جون بياجي.
على أن أخصب مرحلة في عمر الطفل هي هذه المرحلة، من سن الرابعة إلى الثانية عشر، وهي المرحلة الذهبية في جمع المعلومات التي تعد بمثابة المواد الأولية الرمادية كما يقال التي سيصنع بها منتوجاته في بقية العمر ابتداء من سن الرشد؛ بل ومرحلة المراهقة التي تبدأ قبيل سن الرشد.
وتعليم القرآن للأطفال في هذه السن المبكرة هو استثمار في هذا الاتجاه، وليس من أجل الفهم؛ لأن الفهم سيأتي لاحقًا عندما يحين أوانه، ولذلك تبنت الأمة الإسلامية في جميع مراحل تاريخها، تحفيظ القرآن في أولى مراحل عمر الطفل، ابتداء من سن الروضة، فلا تمر إلا سنوات قليلة حتى يتمكن من حفظ القرآن أو أغلبه أو بعضه، ومن الأطفال مَن حفظ القرآن في السن العاشرة وأقل وأكثر.
وحتى عندما أجبرت الأمة على استبعاد القرآن من البرامج الدراسية والمدارس الرسمية، فقد بقيت الأمة متمسكة بالتعليم القرآني في الكتاتيب والمساجد والمدارس القرآنية والزوايا؛ وذلك لتحقيق أكثر من مكسب في حياة الطفل ذات الأبعاد المتنوعة، منها الديني، ومنها الثقافي، والتربوي، والتعليمي، وفي كل ذلك كان الأطفال يحفظون القرآن بتلاوة جيدة وتجويد متقن، ولم يكن مطلوبًا منهم فهمه أو تدبره.
لا شك أن المناهج الدراسية الحداثية لم تهمل بعض هذا الذي نقول، فهي تهتم بتعليم الطفل الأصوات، والأشكال، والألوان والحركات، ولكن مشكلتها أنها تستبعد القرآن والمبادئ الدينية في التعليم، بحجة أن العلمنة ترفض إقحام الدين في التعليم، في حين أن البعد الديني في التعليم، يضيف إلى العلم التربية، ويحافظ على توازن الإنسان وفق تكامل معرفي يرتقي بالإنسان عن المادية الجامدة إلى معالي الروح المتحركة، وأفضل وأرقى الأساليب في تحقيق هذه المبادئ السامية في حياة الطفل هي حفظ القرآن.
لماذا القرآن؟
1. لأن القرآن كلام الله سبحانه، وكتاب ديني كوني، وهو قسيم الكون في الوجود، بحيث لا يفهم الوجود على حقيقته إلا به ومن خلاله، ذلك أن الكون خزان عالم الشهادة والمعلومة المادية، بينما القرآن يمثل خزان عالم الغيب والمعلومة الأخلاقية والروحية، وذلك يستدعي الحرص على حفظ القرآن عن ظهر قلب، مثلما نحرص على مشاهدة الكون ومحاولة معرفته، هذه أرض وتلك سماء وذلك جبل وغيره كوكب… إلخ.
وحروف وألفاظ القرآن في الكتاب كمواقع النجوم في السماء كما قال الأستاذ أبو القاسم حاج حمد رحمه الله (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة 75-80].
وتمكين الطفل من حفظ القرآن، كالحرص على تعليمه الأسماء والأشكال، والألوان، والأصوات؛ بل أبلغ وأدق، لأن تعليمه تلك الأشياء تهييئًا له ليحسن التعامل مع محيطه لاحقًا، أما تحفيظه للقرآن فليستعد للتعامل مع عالم الغيب كما يتعامل مع عالم لشهادة سواء بسواء.
2. إن بناء العلاقة مع القرآن ومنها حفظه، من صميم الإيمان بالغيب –الإيمان بالله واليوم الآخر-، ومن مقتضياته؛ لأن الحفظ له شقان كما أسلفنا شق معرفي باعتبار القرآن قسيم الكون، وشق تعبدي إيماني باعتباره كلام الله المعبود بحق، وإذا كان الناس يحفظون النصوص، حبًا لأصحابها وتذوقًا للكلام الحسن وبحثًا عن معرفة زائدة، فإن حفظ المؤمن لكتاب الله، حبًا لله سبحانه الذي آمن به من قبل، وتذوقًا لكلامه وبحثًا عن مزيد من المعرفة به وبالكون والحياة.
والقرآن ككتاب ديني، فإن نصوصه متعلقة بأحكام تعبدية يطالب بها المؤمن عندما يبلغ سن التكليف.. وتحفيظ الطفل في سن مبكرة للقرآن من حسن الاستثمار فيه؛ لأنه يحفظ استعدادًا، لما يأتي بعد ذلك من مستلزمات التدين والتعبد والمعرفة بالله والكون والحياة.
3. إن حفظ القرآن لدى الكبار والصغار معًا من أفضل وسائل تعلم اللغة، ابتداء من الأصوات ومخارج الحروف، وانتهاء بالتراكيب اللغوية والفنية والأدبية؛ لأن حفظ القرآن –لا سيما الطرق القديمة-، يكون عادة مجوَّدًا، أي بالأحكام، التي تحتوي على دقة عالية في الاهتمام بالصوت وكيفية النطق به، وهذه الطريقة هي عند الطفل أسهل وأسرع؛ لأنه لم يكتسب طرقًا في النطق بالحروف تشوش عليه، وإنما تجربته الأولى بدأت مع القرآن.
4. يقال إن حفظ القرآن يمكن صاحبه من زاد لغوي كبير يحتوي على أكثر من 77 ألف كلمة، وهي كلمات موزع على سور القرآن الـ114 سورة، في هذه الآلاف من الكلمات يوجد أجود صياغات وسياقات وفنون وتصاريف الكلام العربي، ناهيك عن أن اللغة العربية من أرقى اللغات.
فالطفل المسلم كان في العادة يدخل المدرسة النظامية حافظًا للقرآن، أي يدخل بزاد لغوي هام، يساعده على عملية التحصيل التي سيبدؤها مع معلمه، وفي معظمها كما مر معنا، أصواتًا وأشكالًا وألوانًا… إلخ.
5. والقرآن إضافة إلى كونه كتاب هداية، هو خزان معرفي قوي، وأصل في معرفة الإنسان وعلاقاته بالله والحياة والكون..، وإذا كانت التجربة التاريخية مصدرًا للعلوم الإنسانية، فإن القرآن يتضمن في نصوصه قوانين كاشفة لطبيعة تلك الخبرة التاريخية، وبكلام قطعي يقيني لأنه كلام الله الذي خلق البشر وألهمهم وهداهم سبل التعامل مع الواقع وخيرهم فيما يقولون ويعملون.
كل هذه المعاني حرصت الأمة الإسلامية بالرغم من هذا التخلف عن ركب الحضارة، على تثبيتها في نفس الطفل؛ لأنها من الثوابت اليقينية التي تساعد على فهم الوجود، إذا ما وقعت في النفس العالية، ولذلك نجد أن الكثير ممن هداهم الله إلى الإسلام من غير المسلمين، كان بسبب قراءة أو قراءات عابرة للقرآن أصابت عقلًا صادقًا مع نفسه فاستجابت…، وعجبت يوما عندما استمعت إلى أحد نصارى العرب اللبنانيين يستشهد بالقرآن في بعض القضايا التي كان يتحدث عنها، وعندما قيل له ما علاقتك بالقرآن؟ قال: علاقتي بالقرآن أنه جزء من هويتي الثقافية العربية…، والرجل أديب فيما أعتقد، يتذوق القرآن كنص راقي يهذب الذوق ويرقي مستواه الفني، وهذا جانب من جوانب الإعجاز فيه والمقصود أيضا دينيًا ودنيويًا.
تحدث القرآن عن التاريخ.. وعن النفس البشرية.. وعن النظم الاجتماعية والسياسية.. وعن التجربة النبوية.. وعن سبب الانتصارات.. وأسباب الهزائم.. وتحدث عن التجربة النبوية بتنوعاتها واختلافها زمانًا ومكانًا وأحوالًا.. ولم يتكلم القرآن عن كل ذلك بوصفها وقائع جامدة كما يفعل علم التاريخ الذي لا يهتم بأكثر من توثيق الحدث، وإنما كوقائع مربوطة بقوانينها المؤثرة فيها سلبًا وإيجابًا… وكأنه يعرض جميع هذه الأمور التي يتحدث عنها في نسق معرفي تكاملي، يقرأ التاريخ بوصفه حراكًا اجتماعيًا، وتفاعلًا نفسيًا، وتنظيمًا إداريًا، وترقيًا روحيًا.
من قبل موقع الشروق.